محدث بيروت الشيخ محمد بن درويش الحوت الحسيني

2 ـ محدث بيروت الشيخ محمد بن درويش الحوت الحسيني

كانت سنة 1209 للهجرة الموافقة لعام 1789 حسب التوقيت الرومي، عندما ولد في بيروت مدينة العلماء والصالحين والأولياء المحدث العالم الشيخ محمد ابن الشيخ درويش ابن السيد محمد الحوت البيروتي الحسيني، الذي كانت ولادته فأل خير على أهل هذه المدينة التي خرَّجت من العلماء والصالحين والزهاد والصوفية ما يتعذر عَدُّه وحصره.

ترجمته

هو قدوة المحققين وعمدة المدققين، المحدث العالم الفاضل الزاهد السيد أبو عبد الله محمد ابن الشيخ درويش ابن السيد محمد الحوت المتصل نسبه إلى الإمام الفقيه المقدم محمد التريمي ابن السيد علي ابن الشيخ محمد صاحب مرباط ابن الشيخ علي خالع قسم ابن الشيخ علوي ابن الشيخ محمد مولى الصومعة ابن الشيخ شمس الدين علوي الحضرمي ابن الشيخ عبيد الله ابن الشيخ المهاجر أحمد ابن السيد عيسى النقيب البصري ابن محمد البصري بن علي العريضي ابن الإمام جعفر الصادق ابن الإمام محمد الباقر ابن الإمام علي زين العابدين ابن الإمام السبط الشهيد الحسين رضي الله عنهم البيروتي مولدًا، الشافعي مذهبًا.

نشأ في بيت خَرَّج أكثر من عالم خدموا العلم والمسلمين. انكب منذ صغره على الاغتراف من بحور العلم، فحفظ القرءان اتقانًا واستظهارًا وترتيلاً على الشيخ علي الفاخوري ثم تولع في حفظ المتون فحفظ ألفية ابن مالك وغيرها من المتون في العلوم المختلفة.

ولما قدم من الديار المصرية العالم الرباني الشيخ محمد المسيري الإسكندراني، لازمه الشيخ فترة وأخذ عنه علم التوحيد وشرح الخلاصة النحوية وغير ذلك. وقرأ على مفتي بيروت العالم الفاضل الشيخ عبد اللطيف فتح الله، ثم رحل إلى دمشق فأخذ عن أجلاء علمائها ولا سيما علامة عصره الشيخ عبد الرحمن الطيبي الشهير بالشافعي الصغير، ومسند الديار الشامية الشيخ عبد الرحمن الكزبري، والشيخ صالح القزاز والشيخ خليل الخشي والشيخ أحمد بيبرس. كما أنه قرأ على العلامة الشيخ محمد بن عابدين الحنفي صاحب الفتاوى المشهورة.

ولما عاد إلى بيروت أشار عليه الشيخ علي الفاخوري بأن يدرس في الجامع العمري الكبير، فلبى طلبه وصار يدرس الناس في جوار مقام سيدنا يحيى عليه السلام، فأشرقت شموس مواهبه وتفجرت عيون علومه فشفت العليل، وتخرج عليه أكثر علماء بيروت كالمفتي الشيخ عبد الباسط الفاخوري، والمفتي الشيخ توفيق خالد، والشيخ عمر الإنسي، والسيد حسين أفندي بيهم، وغيرهم من أهل العلم والفضل.

توفي رحمه الله ليلة الأربعاء لسبع ليال خلت من شهر ذي الحجة من سنة 1276 للهجرة، وصلى عليه المسلمون الظهر في الجامع العمري الكبير ودفن في مقبرة الباشورة، وكان ذلك اليوم يومًا عظيمًا ومصابًا جسيمًا على أهل بيروت.

ورثاه العديد من الناس بقصائد عدة منها قول المفتي الشيخ مصطفى نجا:

مضى حـوت بحر العلم وهو محمد وبالفضل ما زالت له الناس تشهدُ

نعـم هــذه ءاثـاره وحـديثهـا حديث صحيح طيب النشر مسنـدُ

هو العـالـم العلامـة العلـم الذي به طريق الحق من ضلَّ يرشـَدُ

وللشيخ محمد بن درويش الحوت العديد من المصنفات في العقيدة والحديث واللغة والنحو، منها الكتاب الذي ألفه في التوحيد وسماه «الدرة الوضية في توحيد رب البرية» ورسالة ألفها في خلق الأفعال، وعقيدته التي أملاها على تلميذه سماحة الشيخ عبد الباسط الفاخوري، وهي المسماة «العقيدة الفائقة».

ـ عقيدة ءال البيت:

نتوقف عند ثلاثة من مؤلفات الشيخ محمد الحوت رحمه الله وهي: «الدرة الوضية»، وسالة في خلق الأعمال، و«العقيدة الفائقة».

وهي مؤلفات صنفها في ذكر عقيدة أهل السنة والجماعة ألفها على عقيدة الإمام الأشعري. ومما ذكره في تنزيه الله عن المكان والحلول قوله في «الدرة الوضية" «إذا فهمت ما تقرر لك من ذلك فاعلم أنه تعالى منزه عن الحلول والاتحاد بشىء من الكون، وأن الخالق تعالى مخالف للخليفة»، وقوله: وقوله: «ولا يدخل في وجوده (تعالى) زمان ولا مكان، فإنه السابق على الزمان والمكان»، وقوله: «ولا يتصف بمكان ولا زمان ولا هيئة ولا حركة ولا سكون ولا قيام ولا قعود ولا جهة ولا بعلو ولا بسفل، ولا بكونه فوق العالم أو تحته...»، وقوله: فوجوده تعالى حق واجب لا يقيد بزمان ولا مكان، كان الله ولا شىء معه ولم يزل على ما هو عليه"، وقوله: «نزّه الحق سبحانه وتعالى عن كل ما يوهم الجسمية أو المكان أو الحدوث».

وفي تنزيه الله عن الجوارح والآلات يقول الشيخ الحوت في «الدرة الوضية» ما نصه: «وليس سمعه بآلة وجارحة، كما أن بصره كذلك، فهو منزه عن سمات الخلق»، ويقول في رسالته التي سماها «العقيدة الفائقة» ما نصه: «تحقَّق بأن سمعه تعالى وبصره منزهان عن الجوارح والخفاء والقرب والبعد ونحوها من صفات الحادثات».

وأما تنزيه كلام الله عن الحرف والصوت واللغة فلم يكن بدعة استحدثها العلامة الهرري حفظه الله، بل تعارف المسلمون على ذلك وعرفوه من قوله تعالى: «ليس كمثله شىء»، وكان الشيخ الحوت قد ذكره في «العقيدة الفائقة» حيث قال ما نصه: «كلامه تعالى النفسي قديم كسائر صفاته وأسمائه. وهو منزه عن الحرف والأصوات والمخارج والألفاظ واللغات وجميع صفات الحروف؛ لأن القديم لا يتصف بصفة الحوادث».

وقال في «الدرة الوضية» ما نصه: «وأن موسى سمع كلام الله الأزلي بغير حرف ولا صوت».

أما فيما يتعلق بالآيات المتشابهات وتأويلها تأويلاً تفصيليًا بتعيين معانٍ لها، فقد بين فضيلة الشيخ الحوت رحمه الله موقفه منها، منتصرًا لمذهب الخلف في تأويل الآيات ومدافعًا عنه، فقال في «الدرة الوضية»: «فارجع إلى التأويل كما عليه أئمة معتبرون، وهم من جاء بعد القرون الثلاثة، تقريبًا لفهم القاصر وتطمينًا لقلبه دفعًا للخواطر، وقد أول الخلف الاستواء بالقهر والاستيلاء على العرش وما دونه من الخلق كلهم، فهو منزه عن الاستقرار والجلوس ونحوهما. قال الشاعر:

قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق

فأراد أنه استوى عليه دون استقرار».

وفيما يلي ذلك يقول الشيخ الحوت: «والتأويل مذهب المعتزلة. ولا يلزم من كونه مذهب المعتزلة أن يكون ممنوعًا، فإنه جرى عليه كثيرون من أهل السنة من المذاهب الأربعة، مع أن الأئمة الأربعة كلهم من السلف لا من الخلف.

ويؤول القرب والمعية بقرب الرحمة والتصرف، كل شىء بحسبه، وقد أوّلت اليد بالقدرة وقد جاء في كلام العرب اليد بمعنى النعمة وبمعنى القوة، وأوّل الوجه بالذات أو بالوجود، والجانب بمعنى الحق، والفوقية بمعنى التعالي في العظمة، والعين بالحفظ، والمعية بمعنى معية العلم أو معية الحفظ.

وأما الفتوى بأنه لا يجوز تحريف لفظ الجلالة «الله» بحيث يحذفون عند اللفظ حرف الهاء أو الألف التي قبلها، فقد تناولها الشيخ محمد الحوت رحمه الله في «الدرة الوضية» قائلاً: «واعلم أن الشارع جعل قانونًا عربيًا للكلمات العربية، فلا بد من مراعاته من مد «لا» وإظهار همزة «إله» وهائه، وتشديد «اللام» وإظهار مدة لفظ الجلالة والهاء. ولا تغيرها عن قانونها الشرعي ولا تغتر بما عليه أهل العصر من الاختصار لبعض هيئة حروفها، إلى ان يقول: «وإسقاط هاء «الله» يوجب التسمية بغير الاسم المشروع وكل ذلك خلل»